مائة يوم من مقاطعة القات!

مائة يوم من مقاطعة القات!

مائة يوم من مقاطعة القات!

أحمد سيف حاشد


كان قرار مقاطعتي للقات مائة يوم في البداية لأسباب اقتصادية، وظروف معيشية، ورغم حصول عدة انفراجات في هذا الجانب، خلال تلك المدة، إلا أنني مضيتُ في اكمال ما كنت قد بدأته، وعقدتُ العزم عليه، ونجحتُ في أن أكون بمستوى ما اتخذته من قرار، وبمستوى ما فيه من تحدّي، واختبار عصامية أزعم إنني كنت بمستواها، أو هي دوني، أو هكذا أعتقد.

أن لا تخزِّن في اليمن ليس بالأمر السهل، لاسيما إن كنت وجاهة اجتماعية.. كما أن جهاد النفس محل صعوبة، أو على الأقل لا يخلوا من معاناة، في أمر تكتشف أنك أدمنته، وأعتدت عليه.. تشعر حال مقاطعته بوحدتك وغربتك في مجتمع لا يجتمع في الغالب والأعم إلا بالقات والمقيل.

مجتمع يأثر الشخص فيه أن يجوع على أن لا يخزن.. تشعر بعزلة يضربها عليك أفراده وجماعاته.. تشعر أن المحيط يضيّق عليك كل متسع.. تحس على نحو كثيف بالحصار والاختناق وكتم الأنفاس.

شعرت أنني مللت نفسي، وأن الوقت قد صار هو الآخر يملّني.. حاولت أتعلم الرقص لطرد السأم والملل وتخفيف الوزن، ولكن دون فائدة، حاولت أتعلم الرقص مع صديقي عبد الجبار الحاج، فكان كل من حولنا يضحك علينا، حتى أصابتنا العين.

لكسر حالة الملل والسأم، حاولت أن أرافق أصدقائي المخزنين في مقايلهم، وفي مقايل بعض الأصدقاء، ومعي ثلاجة صغيرة اشتريتها لهذا الغرض أملأها بالشاهي المترع بالجوز والهيل والقرنفل، لأقضي معهم بيقظة بعض وقت المقيل، ولكن بدا لي الأمر بائخاً، وربما مُستهجناً من قبل البعض.

كان قبول أصدقائي لقراري الحاسم لا يخلوا من عدم الرضى، بل صارحني أحدهم بأنني خُربت بعد قراري هذا.. كنت أشعر إنهم يتجشمون قراراً فرضته على نفسي عنوة، وفرضت نتائجه عليهم أيضاً باستثناء صديقين، أحدهم زاد على المائة يوم ما شاء الله، وهو القاضي أحمد الخبي، فيما صديقي أنس دماج القباطي ماثلني بقرار المقاطعة للقات مائة يوم، وتعلّم معي الرقص أيضاً دون أن نجيد ما تعلمناه، ولكن أحسست أن ما تعلمته برغم عدمه أو محدوديته التي لا تستحق ذِكراً ولا قياساً كان حاضرا في تحديه القوي يوم احتفالي وحيداً بالثورة السبتمبرية في ساحة مجلس النواب اليمني بالعاصمة صنعاء عام ٢٠٢١

وفي إطار محاولتي كسر عزلتي قررت مع أصدقائي حضور مقيل بمعيتهم لدى مجلس أستاذنا د. سيف العسلي.. كان جميع الحاضرين بمستوى عالي من اليقظة والتوقد والحضور.. فيما كنت ثقيلاً وغاطساً في خمول عميق.. كنت أبلها حتى في تصنّع الحضور.

كنتُ أشاهد زملائي شعلة من التيقظ والتفاعل والتقاط كل شاردة وواردة، فيما كنت في زاويتي أخوض معاركي بانعزالية مع جحافل النعاس، أحاول أستعين بالهيل والقرنفل لأشحذ بعض اليقظة، ولكن دون جدوى.. كنت أفرك عيوني وأقرص جفوني، وأدعك وجهي بيدي، لأنفض عنه نعاسي، فأفشل فشلاً ذريعاً.. أحاول أن أعض بأسناني على أصبعي حتى تكاد تنفطر من عظتي أو تهرُّ دماً؛ لأقاوم نعاسي دون نجاح أو فائدة.

كان النعاس يداهمني كأمواج بحر هائج.. أمواج النعاس تغمرني مراراً.. تعبث بي كعشب في شاطئه، خارت قواه تحت صفعات وضربات أمواجه المتلاطمه والمتعاقبه.. الأمواج تدومه بتكرار وتضربه ذهاباً وإياباً.. مستسلماً في حراكه وحركته، منتظراً انتهاء الوقت وموعد الجزر والرواح.. ثم ألعن نفسي على ما بديت فيه من حال غير مُرضي، وقد أحس بنعاسي جميع من في المقيل.. ربما تحدثوا في نفوسهم عن بؤس حالي وبما يضاعف حرجي وخجلي، أو تندروا في نفوسهم بفكاهات تثير القهقه على من يستحق الرثاء.. فما يُعلن ويقال ربما أهون وأرحم مما يدور ويُعتمل في طي وكتمان.

كنت أحاول أقضي قليلاً من الوقت في محاولة كسر عزلتي، وأذهب لمقيل صديقي محمد المقالح القريب من مكان إقامتي، ولكنني قاطعته بعد أن شبّه حالي في المقيل بالعريان وسط مكتسين، فيما عبد الفتاح حيدرة شبّه حالي بالمخبر وسط جمع المقيل، فيما ثالث شبهه الحال بشيخ يصّلي في وسط بار يكتظ بالسكارى الثملين.. فقررت بدافع من ألم مقاطعة مقيله حتى تمر المائة يوم.

شعرت أيضاً أن بعض رفاقي تضرروا إلى حد بعيد، وربما تفرقوا قليلاً، وتشتت شملهم، وأول مرة تشهد علاقتي بأحدهم قطيعة كادت تطول ولا تعود.. اكتشفتُ أن قرار مقاطعة القات في اليمن ليس سهلاً، وليس مستطاباً، وكان رفاقي وأصدقائي يستعجلون مرور المائة يوم، وما لقاء يمر إلا ويسألون عمّا بقي من أيام مقاطعة القات.. شعرت أن القرار قد نال منهم أكثر مما نال منّي.

حدث لدى أصدقائي هايل القاعدي وعبد الوهاب قطران ونجيب الحاج خطأ في حساب المائة يوم، فاستعجلوها قبل أن تنتهي بثلاث أيام، وفاجئوني بتجهيز احتفالية انقضى المائة يوم قبل انقضاءها بثلاث أيام، فاحتفلنا مقدماً دون أن أعفي نفسي من استكمال المائة يوم بالكمال والتمام دون اختلال أو نقصان.

ومع ذلك كانت المائة يوم فترة إنجاز في حياتي لم أتعلم فيها فقط الرقص بمستوى محدود أجمع فيها ثلاث رقصات في واحدة مع خطوات التنظيم العسكرية، رقصة أختلط فيها حابل ونابل، ولكن تعلمتُ أيضاً العصامية ومجاهدة النفس، وأنجزتُ كتابة ثلاثة وستون حلقة من كتاب، وما كنتُ أنجز هذا لولا مقاطعة القات، والصرامة المتشددة في تنفيذ القرار.. إنه قرار المائة يوم مقاطعة للقات.

في 20 اكتوبر 2018 بدأتُ تنفيذ قرار مقاطعة القات لأنتهي منه في 28 يناير 2019 تجربة استغرقت مائة يوم، وبقدر ما كانت حافلة بالعصامية والمعاناة، أظنها كانت حافلة بنجاح وإنجاز.

وفي عام 2020 ومع انتشار وباء كورونا قررت مقاطعة القات مرة ثانية والتفرغ للكتابة، ومراجعة ما سبق نشره إلا ما كان في حكم النادر أو الاضطراري أو التمرد عند السأم.


طباعة   البريد الإلكتروني