البردوني شاعر عظيم الكل يسرق أعماله بلا وعي أو خجل

البردوني شاعر عظيم الكل يسرق أعماله بلا وعي أو خجل

البردوني شاعر عظيم الكل يسرق أعماله بلا وعي أو خجل

الدكتور صادق السالمي


بعد انقطاع اكثر من سبع سنوات جلست في مقيل أمس مع عبدالرحمن الزراف الذي هو أحد مجاذيب البردوني والذي أخبرني ان هنالك محاولة سطو على تراث البردوني واورد لي اسمين هما محمد القعود وعبدالمجيد التركي وأخبرني كذلك ان هناك مشروع لاصدار مذكرات ومختارات من شعر البردوني باسم محمد القعود وحده وأن الاصدارات ستكون فقط باسم العقود لاغير، أهم شيء أنا بحكم معرفتي الشخصيه بالقعود اربا به من اي محاولة سرقه او سطو او اساءه للبردوني، ولم احتج كذلك حتى لاستشارة العزيز جميل مفرح حول هذا الموضوع لثقتي في عظيم إجلال وتقديس ومحبة القعود للبردوني.


لكن بالنسبه لمحاولة السطوه على تراث البردوني وسرقته فاعتقد ان هذه المرة، الحمدلله ما حد أتهم عفاش بها وهي التهمه الذي كانو يهرمونا بها اليساريين في كل ذكرى وفاة للبردوني رغم انهم هم السرق الحقيقيين للبردوني كمنجز شعري يمني يقف وحيدا على امتداد زمني مقداره 1500 عام لم تعرف فيها اليمن شاعرا بعد امرؤ القيس الا عبدالله البردوني.

يحاول الناصريين سرقة البردوني وتسويقه للناس باعتباره ناصريا ويحاول الاشتراكيين سرقته وتحويله الى اشتراكي وكذلك يفعل البعثيين ورغم أن البردوني عاصر التجربه الناصريه في قمة ازدهارها على يد عبدالناصر وفي ذروة التزامها بمشروعها القومي من خلال تدخلها في اليمن الا أن البردوني لم يكن ناصرياً ورغم ان البردوني عاشر التجربه الاشتراكية في ذروة المد الشيوعي حينما كانت تسمى عدن جنة اليسار العربي لكنه لم ينتم للحزب الاشتراكي وكذلك عاصر التجربه القومية في نسختها الثانية على يد حزب البعث وشارك في مهرجان المربد، الا أن البردوني لم يكن بعثيا عاصر البردوني وتعايش مع كل السلطات الا أنه لم ينتمي الى أي سلطه عاصر الامامه بكل اوبئتها والآمها ومخاوفها ولم يكن امامياً ولم يكن معارضاً للامامة وعاصر الثوره بكل اعتمالاتها وحروبها مع الملكية وحروبها البينيه الداخليه ولم يكن ثورياً ولا جمهورياً.

لم يبني البردوني مشروعه الشعري على الادعاء الزائف الذي يروج له ادباء الطبعة الشعبية والذي مفاده ان الأديب الحقيقي يجب ان يكون معارضاً وانما بناه انطلاقا من رؤية الأديب الحقيقي وهذا جعل منه يقول في السلطه والمتسلطين مالم يقله فيهم احد من ادعياء معارضه الحكام على مر التاريخ ولم يكشف أحد من ادعياء معارضة الحكام ماكشفه عنهم البردوني من خبايا ومؤامرات وفضائح وتسلط واستبداد بامتداد تاريخي لايبدأ عند فرعون ولن ينتهي عند ملكة البق...

لم ينتمي البردوني لأي حزب ولا لأي سلطه ولم يعارض أي حزب وأي سلطه، لم يتبنى قضيه ولم يدعوا اليها وإنما كان محايداً لاينطلق من أي تصورات مسبقه او قناعات او أفكار وكان منحازاً فقط لرؤيته الشعريه القائمه فقط على الصوره والمستلهمه لهذه الصوره من الواقع فقط لاغير، لأنه كان بوعي الأديب الحقيقي يعي أن القناعات والأفكار والاراء ووجهات النظر والمعتقدات والرؤى والمفاهيم والمواقف السياسية كلها جميعاً مؤقته والاتكاء عليها يفضي لتركيب صورة مؤقته فيما كان البردوني يصبوا إلى تركيب الصورة التي ستفضي ببراعتها الى مايقال عنها اليوم كما سيقال عنها بعد 100 سنه، إنها صورة تنبأت بالمستقبل ورسمته بكل أبعاده.

مايجعل الناصري والاشتراكي يظن ان البردوني يعبر عنه هو نفسه مايجعل المواطن العادي كذلك يظن أن البردوني يعبر عنه والسبب ليس أن المواطن العادي يجد في شعر البردوني تصويراً أو تعبيراً عن كل الأمة وهمومه ومعاناته كما يبدوا ظاهرياً وانما لأن البردوني جعل حياة المواطن بكل ماتمور به وبكل تفاصيلها مواداً لشعره وليس مواضيع لها.

يكمن إبداع البردوني في انه وجد نفسه في بيئة عقيمة بكل ماتحمله الكلمه من معنى عقيمة بموادها الأدبية، ثرية بمواضيعها المؤلمه والمأساويه فلم يجد أمامه تراثاً ادبياً يمنياً يستند عليه مثلما قلت منذ امرؤ القيس فحول هذا العقم الأدبي المادي الى ثراء أدبي من خلال تحويل مواضيع الحياة أو الحياة بواسع طيفها وتنوعها واختلافها وتناقضاتها والامها ومآسيها ومصائبها وافراحها واساطيرها وحكاياتها الى مواد يستلهم منها صورته الشعريه كما حول كذلك الانسان بكل تنوعاته الاثنيه والعرقية والسلالية والطائفية والمذهبية والسياسية والوظيفية، وبكل توجهاته واتجاهاته حوله إلى مادة يستلهم منها صورته الشعرية وكذلك حول الحغرافيا وتنوعاتها ومناطقها واسماءها داخلياً وخارجياً حولها لمواد أدبيه كما فعل مع الزمن والتاريخ والأحداث الذي يمر بها المواطن او الوطن أو العالم أو الانسان كلها حولها لمواد تركبت منها صوره الشعريه ولم يكن شعره تعبيراً عن هذه الوقائع والأحداث والمناطق والهموم والمشاكل اليوميه والمزمنه كلها لم تكن مواضيع عبر عنها شعر البردوني وإنما كانت مواد ارتسمت من خلالها صوره الشعريه.

 

لم ولن ينطلق البردوني في كتابته مستنداً على فكرة لم يحاول التحريض أو الإقناع ولم يسعى للتعبير عن معنى سابق وإنما كانت كل الأفكار والمواضيع والقناعات والحياة بواسع طيفها والإنسان بلا نهائية اعتمالاته واحتمالات وجوده بامتداد تاريخي هي المواد الاولية التي شكلت صور البردوني الشعريه، لم يكن فكره سابقاً لصوره وإنما كانت صوره سابقة لفكره وكانت علامات ودلائل تشير في طريق هذا الفكر وأنا لا أقول أنه لم يكن يفكر وانما أقول أنه كان ينغمس في الفكر بطريقة لم يفعلها أحد قبله في كيفية تركيب الصوره ولم يكن يبحث عن صورة ما للتعبير عن فكرة مسبقه لأن البحث عن تعبير للفكره المسبقة تكون غايته محدوده في البحث عن طريقة مقنعه وفصيحه للتعبير عن الفكرة والإقناع بها وهذا مالم يفعله ولم يفكر به البردوني.

ماجعل الناصري والاشتراكي يظنان أن البردوني يعبر عنهما هو نفسه ماجعل المواطن العادي يظن ان البردوني يعبر عن همومه والامه ومتاعبه ومصاعبه ماجعل الجميع يظن ذلك هو الحضور الكثيف للافكار الناصرية والاشتراكية والوجودية والعدمية والرجعية والحداثية والانسانية والانانية ووووو والحضور الكثيف لمشاكل ومصاعب وهموم الحياه في شعر البردوني لكن كما اسلفت لانهم ينظرون بعيونم هم وليس بعيون البردوني فقد اختلطت عليهم المواد بالمواضيع فجعلوا من مواد البردوني مواضيعا يعبرون بها عن قناعاتهم فيما قناعتهم هم وغيرهم ومشاكلهم وحياتهم هم وغيرهم لاتعدوا أن تكون مواداً تركبت منها الصوره الشعريه للبردوني والتي هي موضوعه الوحيد لاغير.

تكمن براعة البردوني في تحويله لهذا الركام الهائل من العفونه والقذاره والتعب والتناقض والفقر والالم والصراع والعقم والمشاكل تحويلها الى مواد تركبت منها صور شعريه تصدم الوعي بفرط واقعيتها وملامستها للعادي والمالوف في حياة الناس.


مايجعل اليساري يظن أن البردوني يسارياُ هو نفسه مايجعل العاهره تظن أن البردوني هو الوحيد الذي أحس وعبر عن كل ماتحس به، هو نفسه مايجعل الفاسد والمرتشي يظنان أنه لايوجد هناك من استطاع كشف اساليبهم الملتويه مثل البردوني هو نفسه مايجعل الحاكم يظن أن البردوني هو الوحيد الذي استطاع كشف خططه ومؤامراته واساليبه الاستبدايه، هو نفسه مايجعل القواد يظن أن البردوني كان يشاهده وهو يفاوض الزبون على السعر، هو نفسه ما يجعل إمام الجامع يظن أن البردوني كان يشاهده حينما أذن بدون وضوء، هو مايجعل المواطن العادي يظن أن البردوني هو الوحيد الذي كان يحس بالامه وهمومه ومصاعبه وأنه الوحيد الذي عبر عنها.

الحياة بكل تفاصيلها والإنسان بكل تنوعاته هي مادة البردوني الشعرية التي ارتسمت منها صوره بكل تجرد وبكل موضوعيه وبدون انحياز وبدون أحكام مسبقه، لو انطلق البردوني في تصويره للعاهره من فكرة أنها زانيه ويجب رجمها وأنها مخالفه للشريعه لما استطاع رسم صورتها بكل تلك الواقعية ولو انطلق البردوني في تصويره لإمام الجامع من فكرة مسبقه مفادها أن إمام الجامع كائن مقدس ولحمه مسموم لما استطاع تصويره بكل تلك البراعه.


مثلما اسلفت مايراه الجميع انها مواضيع عبر عنها شعر البردوني لا تعدوا أن تكون مواداً إما موضوعه الوحيد فقد كان الصوره الشعريه وفلسفته الوحيد هي الجمال المستخلص من مواد لاتجد وصفاً لقباحتها.


الرئيس والإمام والحاكم يظن كذلك أن البردوني يكتب عنه و مايجعل العاهرة والقواد يظنان أن البردوني يكتب عنهما هو مايجعل كذلك أمام الجامع وشيخ الدين يكتب عنهما، كل شرائح المجتمع لها حضور في شعر البردوني مثلما تجد فيه الغني تجد الفقير ومثلما تجد الجائع تجد المتخم ومثلما تجد المتعلم تجد الجاهل ومثلما تجد الفاسد والمرتشي تجد النزيه والشريف ومثلما تجد الفاسق والمتنطع تجد الزاهد والملتزم والعاهره والقواد والملتزمه والزوج ووووو إنها الحياة والواقع بكل بشاعته بكل قبحه بكل جمالياته وعوامل ادهاشه كلها كانت مواد في شعر البردوني الذي كان موضوعه الوحيد هو الصوره الجماليه لاغير، لم يكن البردوني مثلما اسلفت منحازا لاي فكرة او أي قناعه او رأي باستثناء انحيازه للصورة الشعرية وجماليتها وهذا ما جعله موضوعيا في تناول المواد التي اسلفت ذكرها لم يكن له مثلا موقفا من العاهرة ولم يصدر احكاماً ضدها وهذا ماجعله يصورها بتجرد سيجعل من اي عاهره تقول لن نجد خير من يعبر عنا مثل البردوني ولم يكن البردوني كذلك منحازاً للملتزمه او الزاهده وهذا ماجعل من صورتها في شعره صورة واقعيه لدرجة ان كل زاهده ستقول لن نجد هنالك من كشف خبايا نفوسنا مثل البردوني.

المحتال حين يقرأ شعر البردوني ستنكشف له سوأته والنزيه حينما يقرأ شعر البردوني عنه سيكتشف حجم الصراعات التي تعتمل في نفسه وهكذا هي الحياة بكل تفاصيلها وتنوعها مادة شعر البردوني التي تجعل من اليساري يظنه يسارياً ومن اليميني يجعله يمينياً ومن السياسي يظنه سياسياً ومن الرجل العادي يظنه رجلاً عادياً وهكذا.


عودة إلى سرقة البردوني الموضوع الرئيس لهذا المقال أقول إن البردوني يتعرض للسرقة الآن من قبل هواة التسطيح وراكبي الموجات ومفرغي القيم من مضامينها، يتعرض للتسطيح من جماعة الإخوان المسلمين بنسختها اليمنية التجمع اليمني للاصلاح الذي يريد أن يجعل من البردوني عايض قرني آخر او شافعي اخر يتم الاستشهاد بابياته الشعريه في خطب الجمعه!.

الآن شعر البردوني يبث في قنوات سهيل ويمن شباب وبلقيس والقناة الفضائية وسهيل وبكل كثافتهم وزخمهم الاعلامي سيجعلون من البردوني لسان حال معبر عن فصيل سياسي بعينه وهذه هي السرقه الحقيقيه للبردوني، يتعامل الاصلاحيين بانتقائيه واجتزاء لشعر البردوني ويتعاملوا معه بكل سذاجه وسطحيه جاعلين من مواده الشعريه مواضيعاً يعبروا بها عن موقفهم السياسي وصراعهم مع الحوثيين ولا ابرئ طبعا قناة المسيرة والحوثيين من سرقة البردوني كونهم يجتزؤن كذلك من شعره مواداً يعبرواً بها عن موقفهم في الصراع مع السعودية والولايات المتحده لكن يظل مايفعله الحوثيين ردة فعل لا أكثر على مايفعله الاصلاحيين من سرقة للبردوني من خلال البردوني الذي لم ولن يكونوا بمستوى فهمه ولم تنتهي وتقتصر محاولة سرقة البردوني عند هؤلاء فقط وانما أصبح هنالك تيار القومية اليمنية أقيال الذي كذلك بات تحت سيطرة الاصلاحيين و الذي يريد سرقة البردوني وجعله لساناً معبراً عن اثنيه او عرقيه او هويه بعينها، ومثلما قلت لم ينحز البردوني لأي عرقية أو سلاليه أو طائفيه ولم يلتزم تيار سياسي ولم يتبنى أي قضيه ولم يؤيد اوث يناهض أي اتجاه فكري أو أي مدرسة أدبية وإنما كان محايداً.

لم يحاول إقناع أحد بشيئ ولم يدعوا لشيئ ولم يتبنى أي وجهة نظر او قناعة لأن كل هذه الأمور تتعارض مع رؤية البردوني الجماليه القائمة على الصورة الشعرية التي لا يسبقها معنى أو فكره أو دلاله، وإنما يلحقها طوفان المعاني والدلائل كان متجرداً حتى من ذاته لدرجة انك تجده لم يعبر عن احاسيس او انفعالات او مشاعر ذاتيه او عن تجربة حب شخصيه لمعرفته أن البنيه العاطفيه بكل ماتمور به بنيه مؤقته وأن الاتكاء عليها سيجعل منه شاعراً باهتاً او سيجعله غير قادر على كتابة الشعر حينما يكبر وتبرد فورة عواطفه، كان محايد في مشاعره وتعامل معها كمواضيع وأشياء وعبر عنها كمواضيع وأشياء ذات أحاسيس تركبها الصور ولا تعبر عن أحاسيس ومشاعر الشاعر وهذا ما جعل البردوني رومانسيا في مواده كلاسيكيا في رؤيته وحداثيا في صوره.

#الوفاق_نيوز


طباعة   البريد الإلكتروني