اليمن ظاهرة تنتمي إلى التاريخ لا إلى الطبيعة

اليمن ظاهرة تنتمي إلى التاريخ لا إلى الطبيعة

مقالات وأراء

اليمن ظاهرة تنتمي إلى التاريخ لا إلى الطبيعة

محمد العلائي

"اليمن"، بالمعنى السياسي والحضاري، ظاهرة تنتمي إلى "التاريخ" لا إلى "الطبيعة".
وما هو من صنع التاريخ هو في حكم المستحدَث، وبالتالي هو عرضة للتحول والتغيُّر أو الفناء.
إننا لم نكن "يَمَنَاً" هكذا بالبداهة، أو بموجب حتمية طبيعية ثابتة وإلى الأبد.

إذا استسلمنا لمنطق الطبيعة الخالص، سنجد أننا "يمنات" كثيرة صغيرة متباينة المناخات والظروف والتضاريس والطبائع الفردية والأجسام والأحوال والأمزجة والأهواء.

فنحن إنما صرنا "يَمَنَاً" واحداً، بفعل التاريخ فقط.
التاريخ، بهذا المعنى، هو الجهد العظيم الذي يبذله الانسان لتجميع ما فرَّقته الطبيعة، أو لتفريق ما جمَّعته الطبيعة.

الأجزاء لا تجتمع دون إرادة تجميع، والإرادة تقتضي القدرة وإلا فهي في حكم العدم.

عندما نقول أننا "يمنيون" فنحن ننطلق ضمنياً من خلفية تاريخية نتمثَّل فيها عدد المرات التي انضوى خلالها هذا الإقليم الذي يُدعَى "اليمن" في دولة -أو مملكة- كبيرة واحدة.

أي أن إحساسنا بكوننا يمنيين يزداد قوة بمقدار ما نملكه من ثقافة تاريخية عن الأزمنة التي ارتبطنا فيها، نحن أو أسلافنا، برباط سياسي وطني واحد،
تلك اللحظات المجيدة التي تغلبنا فيها على قوى التشتيت والعزل الطبيعي بين "اليمنات" الصغيرة المختلفة.

هذا هو ما يدعى بالإرث السياسي التاريخي المشترك للمجموعات البشرية الكبيرة، وهو مجموع التجارب والسوابق والمؤثرات التي تركتْ، على المدى الطويل، حقائق كبرى مميزة ومعالم وذكريات ورموز وخبرات ثقافية واجتماعية مشتركة.

غير أن الماضي العريق المشترك، رغم اعتزازنا به، لم يكن يوماً ضمانة من النكوص إلى وضعية اليمنات الصغيرة المستباحة والمتنافرة.

الانحطاط يظل أمر وارد على الدوام، والنهوض كذلك.

يقول عبدالله العروي: "وما هو الانحطاط والتقهقر سوى أن المجتمع ينحط، يهوي من التاريخ إلى الطبيعة"، (العروي، "مفهوم التاريخ" ص361).
الماضي يفقد الكثير من قيمته الراهنة إذا لم يُترجَم في حاضر وطني وقانوني مشترك من خلال دولة قائمة على أرض محددة اسمها اليمن.

الدولة، بمعناها الشامل، هي عنصر التحديد الإيجابي الفعال لماهية اليمن أرضاً وإنساناً، وهي المؤثِّر التاريخي الحقيقي الذي يصنع الفرق وينمِّيه، وهي الفاعل الكُلِّي الذي تتشكّل في ظله سمات وأنماط ثقافية واجتماعية وطنية يمنية متماثلة ومميزة.
بوسعنا أن نسمِّي هذا الدور "يمننة"، بالمعنى الوطني الإيجابي للكلمة.

مع أن لفظ "اليمن" كمسمى لإقليم جنوب شبه الجزيرة العربية هو أقدم بكثير من الدولة اليمنية الحديثة.

لكن الاسم بحد ذاته لم يكن كفيلاً بتوحيد المسمّى، التوحيد بالمفهوم السياسي والقانوني.

ومن المعلوم أن الدول والممالك والسلطنات في تاريخ اليمن القديم والوسيط، لم تكن تتسمّى باسم القُطر/ الإقليم، وإنما باسم السلالة والعائلة المؤسسة أو باسم القبيلة المهيمنة، وكان هذا هو الشائع في عموم العالم قبل حلول العصر الحديث.
لنجرب البحث عن مبدأ آخر، غير الدولة، لتفريد اليمن وتخصيصه بين البلدان والأمم:
"اللغة" لا تصلح لتكون مبدأ تفريد وتمييز لليمن واليمنيين عن غيرهم، فنحن عرباً، والشعوب الناطقة بالعربية موزعة في دول متعددة.

"الدين" ليس مبدأ التفريد، فنحن مسلمين والمسلمين دول متعددة.

"المذهب" ليس مبدأ التفريد، فاليمن متعددة المذاهب، لا يوجد مذهب قومي وطني معمم على كامل أرجاء البلاد.

"المناخ" ليس مبدأ التفريد، فاليمن متعدد المناخات، ومن هذه المناخات ما يشترك بها مع مناطق شبه الجزيرة العربية.

"التضاريس" ليست مبدأ التفريد لليمن عن محيطه، فالجغرافيا اليمنية متعددة التضاريس ومنها ما يتصل بتضاريس شبه الجزيرة العربية.

"النسب" الواحد لا يصلح كمبدأ للتفريد والتحديد، لأن اليمنيين خليط من أنساب ومنابت متعددة.
التراث والتاريخ السياسي المشترك مبدأ تفريد مهم لماهية اليمن، لكن لا يمكن الاعتماد عليه وحده.
فهناك تواريخ يشترك فيها قُطر اليمن مع أقطار أخرى خضعت في وقت واحد لنفوذ امبراطوريات وممالك إسلامية متعاقبة.

وهناك تواريخ صغرى ينفرد بها سكان منطقة من اليمن دوناً عن سكان المناطق الأخرى.

كما لا نستطيع القول أن اليمني يتفرد، أمام نفسه وأمام الآخرين، بالملبس أو بسحنة الوجه أو بنمط الطعام أو بالنغمة الموسيقية، لأن الانسان اليمني متنوع نغماً ولوناً وشكلاً، ذوقاً وطبعاً وملبساً، منفتح على الوافد والجديد من كل شيء.
الدولة لا سواها -الدولة الجمهورية بالتحديد- هي ما يمنح الذات اليمنية الوطنية قوامها.

والدول عموماً ليست هبة الطبيعة، إنما هي هبة التاريخ. وما من دولة إلا وهي مصطنعة ومتغيرة ومهددة بالفناء. وما من دولة إلا وهي ملزمة بأن تكافح طوال الوقت من أجل البقاء مثلما يكافح الكائن الحي وسط الأخطار.

معظم الحضارات، إذا كان لهذه الكلمة معنى، لم تكن في بدايتها سوى أثر من آثار دول وامبراطوريات أفل نجمها.

قد تنهار الوحدة السياسية وتبقى الوحدة الحضارية -الناجمة عنها- قائمة، كما يقول العروي. (عبدالله العروي، مجمل تاريخ المغرب، ج2، ص7).
بل وكثيراً ما تكون حتى روابط اللغة والثقافة والدم أمور ناتجة عن وجود الدولة وليست الدولة ناتجة عنها، وهذا ما ذهب إليه عدد من المؤرخين والكتاب مثل الإسباني خوسه أورتغا إي غاست.
بعض تلك الروابط لا ينحلّ بانحلال الدولة أو الامبراطورية، حيث قد تنشأ على الرقعة الجغرافية نفسها وحدات سياسية أصغر حجماً ومبنية على أسس وعناصر تفريد جديدة مع الاحتفاظ بالعناصر والسمات الحضارية الناجمة عن الوحدة السياسية الكبيرة المنحلَّة.

"الحضارة اليمنية" عبارة فضفاضة تشير إلى نطاق جغرافي واجتماعي تركتْ عليه -لمرة واحدة أو أكثر- دول وممالك يمنية كبيرة بصمة قوية مشتركة تتوارثها الأجيال.

حدود "اليمن السياسي" ليست مطابقة في الوقت الحالي لحدود "اليمن الحضاري"، ولا يمكن أن نجعلهما مرة أخرى متطابقين من خلال الادّعاء والتمنِّي والنقيق المتشكِّي العاجز.


#الوفاق_نيوز

طباعة