أوكرانيا، ومرحلة جديدة من حرب ملتهبة حول الطاقة

أوكرانيا، ومرحلة جديدة من حرب ملتهبة حول الطاقة

مقالات وأراء

جمال طه يكتب:
أوكرانيا، ومرحلة جديدة من حرب ملتهبة حول الطاقة😲

عملية تفجير جسر القرم الاستراتيجي - الذي يربط الأراضي الروسية بشبه جزيرة القرم - يوم 8 أكتوبر 2022، تمت بواسطة شاحنة مفخخة دخلت من الأراضي الروسية، وتجاوزت إجراءات التفتيش، ثم انفجرت قرب قطار محمل بالوقود، مما أدي لازدياد اشتعال النيران، وانهيار جزء من الطريق، فوق المضيق البحري الواصل بين بحر آزوف والبحر الأسود.. عملية مخابرات ناجحة، اعتبرها مستشار الرئيس الأوكراني ميخائيلو بودولياك «مجرد بداية.. يعقبها تدمير كل شيء غير شرعي، واستعادة ما استولت عليه روسيا.. وطردها من المناطق التي احتلتها».. التصريح اعتبره أوليج موروزوف نائب رئيس مجلس الدوما «البرلمان»، اعترافا رسميا بتنفيذ العملية، التي وصفها بأنها «لم تكن مجرد تحدٍ عسكري، بل إنها إعلان للحرب بلا قواعد»، مما فرض تغيير قواعد الاشتباك.
*

جسر القرم طوله 19 كيلومترا، يمثل البنية الأساسية للنقل بين الأراضي الروسية وشبه الجزيرة، وطريق الإمداد الرئيسي للقوات الروسية على جبهة «خيرسون» جنوب أوكرانيا، سواء بالرجال والسلاح والذخائر أو بالوقود والمؤن، مما يفسر استهداف «كييف» له قبل بدء هجومها المعاكس على «خيرسون».. أوكرانيا استبقت عملية الجسر، باستهداف البنية الأساسية للطاقة في روسيا منتصف أغسطس، وذلك بمعرفة مجموعات تخريب فجرت ستة أبراج لخطوط الكهرباء التي تغذي المحطة النووية الواقعة في منطقة كورشاتوف بمقاطعة كورسك الروسية، كما أعقبتها بشبهة المشاركة في تفجير خطى أنابيب «السيل الشمالي 1 و2» في بحر البلطيق.

السلطات الروسية اعتقلت 6 مواطنين أوكران خلال محاولتهم تخريب أحد مخارج خط أنابيب «السيل التركي».. مما يعنى ان منشآت البني التحتية - خاصة المتعلقة بالطاقة- أصبحت هدفا رئيسيا، لزيادة الضغط على المدن، ونشر الذعر بين السكان نتيجة انقطاع الكهرباء والخدمات، بعد ان كانت الحرب تقتصر على استهداف المخازن ومناطق تشوين الأسلحة، ومعسكرات التدريب والتوزيع.. أوكرانيا بدعم المخابرات الأمريكية تُسخِن جراح الروس، متجاهلة انها قد تراهن بمستقبل البشرية، لان بوتين ببساطة لن يخسر الحرب، قبل ان يستنفذ كل ما في الترسانة العسكرية الروسية، الأولى عالميا في أسلحة الدمار الشامل.
*

عملية «جسر القرم» غيرت قواعد الاشتباك بين روسيا وأوكرانيا، ونقلت الحرب إلى مرحلة أشد عنفا، تعتمد على مرتكزين رئيسيين: الأول استهداف البنية التحتية، خاصة محطات الطاقة الحرارية ومنشآت توليد الكهرباء، التي يستغرق إصلاح مرافقها وقتا طويلا وتكلفة عالية، والثاني قطع لوجستيات إمدادات الأسلحة، بما فيها السكك الحديدية والمحاور الرئيسية للطرق، وهذين المرتكزين لا يسهل للدعم الغربي تعويض أوكرانيا عنهما على وجه السرعة، على نحو ما كان يحدث بالنسبة للأسلحة والمعدات العسكرية.. روسيا اعتمدت في تنفيذ ذلك على الطائرات المسيرة الإيرانية، التي سيتضاعف دورها خلال المرحلة المقبلة، بالإضافة الى صواريخ ايرانية أرض- أرض دقيقة التوجيه، تم الاتفاق عليها ضمن صفقة ضخمة، خلال زيارة النائب الأول للرئيس الإيراني «محمد مخبر»، واثنان من كبار المسؤولين في الحرس الثوري، ومسؤول من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الى موسكو في 16 أكتوبر 2022.
*

مشكلة أوكرانيا ان أنظمة الطاقة ووسائل الحماية الأمنية لمنع استهدافها، قد تم وضعها في عهد الاتحاد السوفيتي، ما أتاح لموسكو نسخة من قواعد بياناتها، وبالتالي سهل تنفيذ عمليات استهدافها بصورة ممنهجة.. القوات الروسية بدأت اعتبارا من يوم 10 أكتوبر - أي بعد يومين من استهداف جسر القرم- في شن هجمات جوية وصاروخية مكثفة على مرافق الطاقة الحرارية ومحطات توليد الكهرباء ومخازن الوقود اللازم لتشغيلهم، كما تم توجيه ضربات استهدفت عرقلة اتصالات القوات المسلحة الأوكرانية، خاصة محطات الاتصال بالأقمار الصناعية Star link التابعة لـ «إيلون ماسك»، والتي تستخدمها القوات المسلحة في الاتصالات، وتوجيه الأسلحة الغربية المتقدمة، حتى ان تقدير بعض الخبراء ان هيئة الأركان العامة الأوكرانية، صارت على وشك فقدان السيطرة على وحداتها.

رئيس وزراء أوكرانيا «دنيس شميكال» أكد إن 6 منشآت رئيسية للطاقة، قد تعرضت لأضرار فادحة حتى 19 أكتوبر.. و«ألكسندر خاراشينكو» مستشار وزير الطاقة أكد أن 40% من إجمالي البنية التحتية للطاقة، وقدرات توليد الكهرباء لديهم قد خرجت من الخدمة، ما تسبب في انقطاع واسع للتيار الكهربائي في مختلف أنحاء البلاد.. استمرار عمليات القصف الروسي على هذا النحو، يمكن ان تؤدى الى إجبار السكان على الهجرة الى الغرب حيث دول الاتحاد الأوروبي، التي تعاني من ضغوط 7,7 مليون أوكراني؛ يمثلون 19 % من تعداد السكان، مما يفرض مزيدا من الأعباء على اقتصاداتها، وبالتالي اجبارها على الحد من دعمها الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا، خاصة في ظل الضغوط التي تتعرض لها الحكومات الأوروبية من جانب الرأي العام، نتيجة زيادة صعوبات المعيشة.

السلطات الأوكرانية أعلنت حالة تأهب جوي في كافة مناطق البلاد، ودعت المواطنين للنزول إلى الملاجئ، والاحتفاظ باحتياطي من الطعام والمياه يكفي لمدة أسبوع تحسبا لانقطاع التيار الكهربائي، ونصحت بفصل الثلاجات وعدم استخدامها طوال اليوم، كما اتخذت إجراءات صارمة لتقليل الاستهلاك، مثل إطفاء إشارات المرور وأضواء الشوارع، وتقليل استخدام وسائل النقل الكهربائية بنسبة 60%، وخفض معدلات تقاطر مترو الأنفاق، لتقليل الضغط على شبكة الطاقة، وحتى خدمة الانترنت تم تخفيض سرعتها بنسبة 20% عن معدلاتها الطبيعية.
*

أوكرانيا استغاثت بالدول الأوروبية، لدعمها في مواجهة التهاب «حرب الطاقة»، وهي أول نموذج في التاريخ أشعل هذا النمط من الحروب ثم عانى من الهجوم المعاكس.. وزارة الدفاع الأسبانية بادرت بإرسال أربع مولدات بقدرة 400 كيلووات ومولد واحد بقدرة 150 كيلووات، كما وعدت كندا بتقديم 500 ألف قطعة من الملابس الشتوية «سترات وسراويل وأحذية وقفازات»، بينما تقوم ليتوانيا بتجهيز ملابس الشتاء لـ 25 ألف جندي أوكراني، وقدمت ألمانيا مئات الآلاف من القبعات والسترات والسراويل، وتضمنت الشحنات الأخيرة من دعم الولايات المتحدة وبريطانيا ملابس للشتاء.

ومن وجهة النظر الاستراتيجية فإن الاستهداف الروسي لمصادر الطاقة في أوكرانيا أصاب حلف «ناتو» بالذعر، لأن استخدام موسكو لهذا السلاح قد يمكنها من حسم الحرب خلال أسابيع، قبل ان تتمكن دول الحلف من تعويض خسائر أوكرانيا في قطاع الطاقة لتمكينها من الصمود، ويفسر ذلك إصدار الحلف بيانا يوم 18 أكتوبر أكد فيه «أن الحلف على استعداد لكل الاحتمالات العسكرية، ولن يقبل الاستفزاز الروسي»، وبدأت بعده دول الحلف على وجه السرعة في تزويد أوكرانيا بمنظومات تستهدف الحد من نزيف بنية الطاقة.
وزارة الدفاع الألمانية سلمت أوكرانيا على عجل أول وحدة من منظومة الدفاع الجوي IRIS-T-SLM التي تعد من أكثر المنظومات الألمانية تطورا، على ان يتم تسليم الأنظمة الثلاثة المتبقية خلال العام المقبل!! ويتكون النظام من رادار يدور بزاوية 360 درجة، ومركز قيادة وثلاث قاذفات صواريخ محمولة على شاحنات، تعمل بنظام توجيه بالأشعة تحت الحمراء، يمكنها إصابة أهداف على ارتفاع 20 كيلومترا وعلى بعد 40 كيلومترا، وثمنها 140 مليون يورو.. الوحدة تكفي لحماية مدينة متوسطة باتساع 200 كيلومتر مربع، لكنها غير قادرة على تأمين الحماية لكييف العاصمة «850 كيلومتر مربع» مما يعنى انها لن تغير مسار الحرب.. والولايات المتحدة سارعت بتسليم أوكرانيا وحدتين من أنظمة صواريخ (NAMAS) أرض/ جو، من انتاج شركة «رايثيون« الأمريكية والمجموعة النروجية «كونجسبيرغ»، وذلك من بين 8 أنظمة تعتزم تسليمها كجزء من مساعدات طويلة الأجل. الثلاث وحدات التي تسلمتها أوكرانيا من المانيا والولايات المتحدة ربما تمكنا من تأمين سلامة العاصمة الأوكرانية وضواحيها.

عمق الأزمة دفعت أوكرانيا الى توجيه طلب رسمي إلى إسرائيل لإمدادها بنظام القبة الحديدية، لكن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس، أكد أن إسرائيل لن تزوّد أوكرانيا بالأسلحة لأسباب عملياتية!!، لكنها ستواصل دعم كييف بالمساعدات الإنسانية.. والحقيقة ان إسرائيل سبق ان رفضت كل الطلبات الأمريكية الخاصة بدعم أوكرانيا عسكريا بشبكات الدفاع الجوي، لأنها لا يمكن ان تغامر بإغضاب موسكو، التي تملك السيادة المطلقة في الأجواء السورية، وهي قادرة على منعها من العمل هناك.. واقعة تؤكد لنا من جديد ان مصالح العرب مجرد ورقة مساومة بين القوى الدولية، بغض النظر عن مصالح الأمن القومي العربي ذاته.
* .

المحطات النووية تمثل مرتكزا أساسيا يمكن ان يخفف من وطأة حرب الطاقة، لأن الإقدام على قصفها يدخل فى إطار التصعيد النووي.. لذلك تتبنى المجموعة الأوروبية الدعوة الى عودة محطة زابوريجيا النووية الى السيطرة الأوكرانية الكاملة، ومجموعة الدول السبع الصناعية نددت بما وصفته بقيام روسيا باختطاف عدد من القيادات والفنيين العاملين بمحطة «أوليج أوشيكا» ضمن جهودها لعرقلة عملها، والوكالة الدولية للطاقة الذرية تواصل الضغط من أجل إنشاء منطقة منزوعة السلاح حول المحطة، لمنع تعرضها للهجمات، أو استخدامها كدرع واقى.. المحطة تضم 6 مفاعلات، هي الأكبر في أوروبا، قدرة كل منها 950 ميجاوات بمجموع 5,7 جيجاوات تغطى 20% من استهلاك أوكرانيا من الكهرباء، لكن روسيا تسيطر عليها منذ مارس الماضي، وقامت بنقل ملكيتها الى حكومتها، ضمن حرب الطاقة ضد أوكرانيا، وطمعا في الاستفادة من التقنيات الغربية الحديثة، وكذا لتزويد المناطق الجديدة التي تم ضمها شرق أوكرانيا باحتياجاتها من الكهرباء.
*

ضمن جولات حرب الطاقة التي تشهدها الساحة الأوكرانية، اتهم الرئيس الأوكراني «زيلينسكي» روسيا بتلغيم سدّ محطة «كاخوفكا» لتوليد الطاقة الكهرومائية بمنطقة خيرسون، التي تسيطر عليها القوات الروسية، والأخيرة توجه نفس الاتهام لأوكرانيا.. والحقيقة انه اتهام له وجاهته على ساحة الحرب، فقد سبق ان دمر السوفييت عام 1941 سد زابوريجيا لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهر دنيبرو، لإبطاء تقدم النازيين، وقد لقى حتفه جراء ذلك 100 ألف شخص.

تدمير سد «كاخوفكا» يعتبر أحد البدائل التي يمتلك كلا الطرفين القدرة على استخدامها، بناء على ما تحققه له من مكاسب؛ السد يحتجز خلفه 18 مليون متر مكعب من المياه، منسوب الضفة الغربية لنهر دنيبرو أدنى من نظيرتها الشرقية، مما يعنى ان تدمير السد يغرق 80 من البلدات والقرى على الضفة الغربية بما فيها مدينة خيرسون نفسها، ومضاعفة أعداد القتلى والمهاجرين، ناهيك عن وقف إمدادات المياه ومياه التبريد عن محطة زابوريجيا النووية وبالطبع انقطاع التيار الكهربائي.. ولكي نحسم مسألة الاتهامات المتبادلة من جانب الطرفين، فإن أوكرانيا هي الطرف المستفيد من تفجير السد إذا ما ظلت القوات الروسية تحتل ضفته الغربية، وتسيطر على المفاعل، لان ذلك يقضى على القوات الروسية.. أما لو أجبر الروس على الانسحاب الى الضفة الشرقية للنهر، تحت ضغط الهجوم الأوكراني تكون موسكو هي صاحبة المصلحة في تدمير السد.. البحث عن صاحب المصلحة، يفضح الفاعل دائما.
*

الموقف العسكري في حرب الطاقة يتصاعد بصورة متسارعة، ورغم ذلك فإن نظرة هادئة متعمقة للأزمة تفرض علينا الرزانة في تقدير انعكاسات هذا التصعيد على احتمالات التسوية السياسية، فقد أرهق الطرفين بالفعل، مما يفسر أنه وسط صخب التصعيد، استكملت سرا مفاوضات أكبر عملية تبادل للأسرى منذ بدء الحرب في فبراير الماضي، وتم تنفيذها بالفعل حيث تضمنت 218 أسير، بينهم 108 من النساء الأوكرانيات.. إضافة الى ذلك فإن خلافات بعض دول الاتحاد الأوروبي «فرنسا وايطاليا» مع واشنطن بشأن أسعار الغاز، والضغوط الداخلية التي تتعرض لها حكومات الدول الغربية، نتيجة لارتفاع تكلفة المعيشة، على نحو عجزوا معه عن سداد التزاماتهم، كل ذلك يؤكد ان التسوية السياسية ستفرض نفسها على كافة الأطراف، لأن البديل هو انهيار الأوضاع الداخلية.

#الوفاق_نيوز

طباعة